ان الزخم العطائي لثورة الإمام الحسين عليه السلام عطاء دائم، على مختلف العصور والدهور والأجيال، فهي بمثابة المشعل الذي ينير الدرب للثائرين، في سبيل رسالة الحق، الرسالة الإسلامية الخالدة. وفي نفس الوقت تحرق عروش الطغاة وسرق اموال شعوب مظلومةوالهياكل الوهمية المزيفة التي بنت دعائهما على عروش وكراسي من الشمع، سرعان ما تذوب بحرارة الثورة الحسينية المقدسة.

وهذا العطاء الدائم للثورة، طالما غذّى الغصون الإسلامية; حتى نمت وترعرعت ثورة أبي الشهداء الحسين الخالد. فهي كانت ولا تزال وستكون نبراساً لكل إنسان معذب ومضطهد على وجه هذه الأرض، وهي الأمل المنشود لكل الناس الخيرين، الذين يدافعون عن حقهم في العيش بسلام وأمان.

فهذه القرون تأتي وتذوب قرناً بعد قرن، كما تذوب حبة الملح في المحيط. وهذا الحسين اسمه باق في القلوب وفي الأفكار والضمائرالشريفة، فهو أكبر من القرون وأكبر من الزمن; لأنّه عاش لله، وجاهد في سبيله، وقتل في رضوانه. فهو مع الله والله معه، ومن كان الله معه فهو باق. وإن ثورة الإمام الحسين عليه السلام قد تمخضت وكشفت عن جانبين مهمين هما:
الجانب العاطفي والجانب العقائدي.
ـ الجانب العاطفي للثورة :
وهي الثورة الوحيدة في العالم، التي لو تسنّى لكل فرد مهما كان معتقده وفكرته أن يقرأ مسرحيتها بكل أبعادها وتفاصيلها، لما تمكّن من أن يملك دمعته وعبرته. وكما هو المعروف الآن في البلاد غير الإسلامية كالهند وبعض الدول في أفريقيا حيث يقرأ بعض أبنائها ملحمة واقعة الطف في كربلاء، فإنهم لا يملكون إلاّ أن يجهشوا بالبكاء، وقد يؤدي أحياناً إلى ضرب الصدور لا شعورياً; لأنها مأساة أليمة تتصدع القلوب لهولها ومصابها.

وذلك كما وصفها المؤرخ الانكليزي الشهير ]جيبون [بقوله: «إن مأساة الحسين المروّعة، بالرغم من تقادم عهدها، وتباين موطنها، لابدّ أن تثير العطف والحنان في نفس أقل القرّاء إحساساً وأقساهم قلباً»
وقيل أيضاً: إنّ الأعداء بعد قتل الحسين عليه السلام، هجموا على عياله يسلبونهم وهم يبكون. فجاء رجل إلى فاطمة بنت الحسين وأراد سلبها وهو يبكي، فقالت له: لماذا تسلبني إذن؟
فقال لها: أخاف أن يأخذه غيري (انظر كتاب سير أعلام النبلاء، الذهبي 3: 204)

وكيف لا تكون كذلك، وهي المأساة التي أدمت قلب الإنسانية، وأقرحت جفونها، تألّماً وتأثّراًنعم اهل الضائر الزكية يتألمون لهذه الواقعة لما حل من مأساة والآم التي حلّت بشهداء هذه الثورة.
وما زالت ذكرى هذه الثورة لها خاصية في قلوب المنصفين والمؤمنين بحرية الانسان المظلوم وحقوق المجتمع . اما الذين يعيشون على مائدة السلاطين والرؤساء يحاولون ان يجدوا تبريرات واهية لابعاد صرخة الثورة الحسينية عن الواقع المؤلم الذي تعيشه الشعوب المغلوب على امرها .لتبقى عروش الطغاة في مأمن من غضب الشعوب
2 ـ الجانب العقائدي للثورة :
إذا أردنا دراسة الجانب العقائديلثورة الحسين (رض)، فلم نعرف أنّ ثورة في التاريخ عرفت بعقائديتها بهذا اللون من الاعتقاد، والتفاني من أجله.
والإنسان لا يمكن له أن يعرف المستوى العقائدي لثورة من الثورات، إلاّ أن يدرس النصوص والوثائق لقادة هذه الثورات وأنصارها.

وثورة الإمام الحسين عليه السلام بلغت في عقائديتها الذروة العليا في الوعي والعمق، لدى قائدها وأتباعه وأنصاره. فهي لم تختلف وعياً في جميع أدوراها، منذ أن أعلنت حتى آخر نفس من حياة رجالها، على مختلف المستويات الثقافية لرجالها.
فهذا الشيخ الكبير يحمل نفس الوعي للثورة الحسينية، الذي يحمله الكهل والفتى، وحتى الذي لم يبلغ الحلم، يحمل نفس الروح لدى رجالها وأبطالها.
فلو تصفّحنا الوثائق الأولى لقائد هذه الثورة الحسين عليه السلام، لرأيناها تحمل نفس روح الوثائق التي قالها الحسين عليه السلام في آخر حياته فهي:


- تغيير الجهاز الحاكم
فالإمام الحسين لم يقصد من ثورته على الحكم تغيير يزيد بالذات; لأنه هو يزيد بن معاوية بن أبي سفيان الأموي، بل الإمام الحسين عليه السلام علل ثورته على حكم يزيد في بعض خطبه ، التي خطبها الحسين عليه السلام أمام أول كتيبة للجيش الأموي: «أيها الناس! إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من رأى سلطاناً جائراً، مستحلا لحرام الله، ناكثاً لعهده، مخالفاً لسنة رسوله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيّر ما عليه بفعل ولا قول، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله»
حيث علّل عليه السلام خروجه على سلطان يزيد; لأنّه سلطان جائر، يحكم الناس بالإثم والعدوان، وذلك مخالف للشريعة الإسلامية، ولسنّة النبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، فلهذا خرج عليه.
صحيح أنّ هناك بعض الوثائق تصرّح باسم يزيد، كما في الوثيقة التي قالها لما طلب منه والي يزيد على المدينة مبايعة يزيد، فأجابه عليه السلام: «أيها الأمير! إنّا أهل بيت النبوة...ويزيد رجل فاسق، شارب للخمر، قاتل النفس المحترمة، معلن للفسق، ومثلي لا يبايع مثله»
1 ـ «ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمان، وأظهروا الفساد، وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله»
2 ـ «وقد بعثت إليكم بهذا الكتاب، وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيه، فإنّ السنّة قد أُميتت، والبدعة قد أُحييت»
3 ـ «ألا ترون إلى الحق لا يُعمل به، والى الباطل لا يُتناهى عنه»
4 ـ «وإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدي صلى الله عليه وآله وسلم، أريد أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي» فإنّ هذه المقتطفات من خطب ورسائل الإمام الحسين عليه السلام، لهي نصوص صريحة واضحة، لا شبهة ولا غموض فيها; لبيان غرضه وهدفه عليه السلام.