يوجد خطأٌ شائِع ومُستفيض عند عوامِّ الناس وبعض طلبة العلم ، وهو ترك السنة القبلية وليس الراتبة لصلاة المغرب . وهذا الخطأ يُلاحظ في المسجد الحرام وفي المسجد النبوي، وغيرهما من المساجد .
ومن الواجب التنبيه عليه لجهل كثيرٍ من الناس بحكمه وعدم وقوفهم على ثمرة معرفته .
فالصلاة قبل المغرب مشروعة وليست واجبة ، والمشروع يُندب فعله إذا كان متعلِّقاً بعبادة ، ولا يصح التواطؤ على تركه أو هجره .

وقد قال الإمام القرافي (ت: 684هـ )رحمه الله تعالى : ” كُّل حُكمٍ شرعيِّ لا بُدَّ له من سبب شرعي” . وَسيرِد أدناه السببُ الشرعي لحكم هاتين الركعتين .

والمقصود بالخطأ هو العدولٌ عن الصوابِ والكمالِ كما قرَّره الأُصوليون .
وهاتان الركعتان محتقرتان عند كثير من الناس خاصَّتهم وعامتهم إلا من رحم الله تعالى .

والناس اليوم يخلطون عند تطبيق فروع الشريعة بين المباح والمندوب . فالمباح وجوده وعدمه سواء ، والمندوب ما يُمدح فاعله ، ووجوده راجحٌ على عَدمه . فاحفظ هذا فإنه نفيس جداً .
وفي غالب نصوص الشرع المحتقر عند الناس فَضلُهُ مُضاعف عند الله تعالى ، كإماطة الأذى عن الطريق وسُقيا الماء ، وإغاثة الملهوف وهداية الضال إلى غايته ، ونحوها من الأعمال .

وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بقبر فقال : ” مَن صاحب هذا القبر ؟ قالوا : فلان ، قال : ” ركعتان خفيفتان مما تحقرون وتنفلون يزيدهما هذا – يُشير إلى القبر – في عمله ، أحبُّ إليه من بقية دنياكم ” أخرجه أبن المبارك في الزُّهد وصحَّحه الألباني .
فَيُستفاد من هذا الحديث أن الأعمال المحتقرة في نظر بعض الناس فيها من الأجور والفضائل ما يعجز الِّلسان عن وصفها وحصرها.

وهذا الحديث فيه مسألة أصولية وفقهية ومقاصدية.
أما المسألة الأصولية فهي ما يُسمَّى عند الأصوليِّين بالإيماء والتنبيه ، وهو أنواع ونوعه هنا أن الحكم اقترن بوصفٍ وجزاءٍ معيَّن وهو زيادة الأجر بالنافلة ، ولا يَكره الزيادة إلا محروم .
فتكون العِلَّة من مشروعية الصلاة هي زيادة الخير الدنيوي والثواب الأخروي .

أما المسألة الفقهية فهي أنه ليس للمغرب سُنَّة قبلية راتبة ،وقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ” صلُّوا قبل المغرب ، ثم قال في الثالثة “لمن شاء”متفق عليه ، يدَلُّ على أنها مشروعة وليست واجبة.
فإذا كان الإنسان جالساً قبل المغرب ثم أذَّن المؤذن ، أو دخل المسجد قبل الإقامة ، فيُشرع له أن يُصلِّي ركعتين لهذا الحديث الصحيح، ولقوله صلى الله عليه وسلم : “بين كُّل أذانٍ صلاة ، بين كل أذانٍ صلاة “. متفق عليه.

وقد ابن حجر رحمه الله تعالى : ” التكرار يدلُّ على تأكيد الاستحباب ” .
وقال سعيد ابن المسيَّب رحمه الله تعالى : ” حقٌّ على كل مؤمنٍ إذا أذَّن المؤذِّن أن يركع ركعتين ” .
فمن صلَّى الركعتين القبلية فقد امتثل وفعل هذا المشروع.

الركعتان لم تكن راتبة يُحافظ عليهما النبي صلى الله عليه وسلم، إنما هما مشروعتان لمن كان في المسجد حين الأذان ، أو دخل بعد الأذان ، أو دخل قبل إقامة الصلاة بقليل. وكان الصحابة رضي الله عنهم يَحرصون عليها، فقد قال ثمامة بن ‏عبد الله بن أنس: ( كان ذوو الألباب من أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم يُصلُّون ‏الركعتين قبل المغرب).

فتأمل أنهم من كمال عُقولهم لم يُفوِّتوا هذا الأجر ولم يَغفلوا عنه .
والمعنى أنهم إذا أذَّن المؤذن قاموا فصلُّوا ركعتين، والنبي صلى الله عليه وسلم رآهم ولم يَنههم عن ذلك، بل حضَّ على هذا فقال: “صلُّوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب، ثم قال في الثالثة: ” لمن شاء “.
أما المسألة المقاصدية فهي مذكورة في قوله صلى الله عليه وسلم : ( لمن شاء ) .

وذكر المشيئة لا يعني التزهيد في الفعل أو الدعوة إلى تركه ، بل المقصود أنه منوط بعزيمة العبد وإرادته ، والمؤمن لا يرض بالدُّون ، ولهذا قال أنس رضي الله عنه : ” لقد رأيتُ كبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتدرون السواري عند المغرب ” أخرجه البخاري.
والمعنى أنهم كانوا يُصلُّون السنة القبلية للمغرب خلف أعمدة المسجد ، لحرصهم على ثواب الطاعة .
وفي لفظ : ( يبتدرون ) معنى خفيِّ لشحذ الهمة وتقوية العزيمة لِفعل العبادة ، مهما كانت حَقيرة في نظر الناس ، أو ليست من الفرائض والواجبات .

والمقصود مما تقدَّم معرفة السبب الشرعي للعناية بهاتين الركعتين ، وهو الوقوف على الكمال الواجب والمستحب ، وعدم التفريط في الطاعة ولو كانت محتقرة عند بعض الناس ، والاستكثار من الأجور مهما صغرت ، ومعرفة الفرق بين المندوب والمباح ، والاقتداء بالصحابة رضي الله عنهم في حرصهم على النفع الأخروي ، وحضِّ الناس عموماً على اغتنام كل وقت ، للتزوُّد من الطاعات ما لم يرد دليل على المنع بسبب عدم المشروعية أو بسبب المخالفة لنصِّ عام .

نسأل الله أن يُفقِّهَنا في سُننه وشريعته ، وأن يُعينَنا على مرضاته وطاعته .
هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات .